ســـعـوديـموزيـن
بعد أن يئس من رفع يـده للـعشرات من سيارات "التاكسي" ولأكثر من عشرات المرات آملا وقوف إحداها بينما مر أغلبها من أمامـه خاليـة من الركاب وبسرعات خارقة ولا يجـد تفسيرا الا أن يسكب خلفهـا جرادلا من شتائم الغضب وفوقها أخرى مما يوقد لهيب اللعنات على سائقيها لتحـدث فيه "علميا" البرودة في داخله، أي "تبرد على قلبه"، لأن كل دقيقة من الانتظار تمرق فيها أعداد من التـاكسي كافية لزيادة توتره وضغطه الى أقصـى معدلات الغضب بعـد أن تجاوز مؤشر ساعته التاسعة والنصف صباحا! وهذا يعنـي بأن الموظف سعود بن عبد الله أصبح متـأخرا جـدا عن الدوام وللمرة العاشرة في هذا الشهر فقط عدا أيام الغياب، وبالرجوع الى ما قبلها من عـشرات مضاعفة من الإنذارات والتـعهدات المشددة مع الحسميات المخفضة والمشددة والتي أصبحت كالمهووسة بـه منذ أشترى تلك الاستراحة الصغـيرة قبل أقل من ستة أشهر وتبعد منزله مسيرة ثلاث ساعات متواصلة وفي الظروف الحسنة ذهابا فـقط وهذا يعتمد على انخفاض الزحام في الدائري الجنوبي مع طريق الملك فهد، ولهذا قرر للتـو أن يقفـز أمام أي سيارة أجـرة قادمـة والركوب فيها مهما كلف الأمر، أي بالخناق أو "بالطِقـاق"! ولكن السيارة التاليـة كادت تدهسه فعلا وهي متجهة نحوه كزبون ولم ينتظرها للتوقف بجواره بهدوء!
وأخيرا تحرك بحذر من على "الكبوت" وأنطلق راكضا من أمامها نحو باب التاكسي تحسبا لأي محاولة هرب وقفـز فورا الى جوفـها غير مصدق، وقال للسائق وهو يلهث من الضغط والاجهاد وفرحا بنجاح مغامرته الانتحارية:
- معليش يا الشيخ! إيه الله يجزاك بالخير تكفا أبي وزارة الصحة في شارع الوزارات، بسرعة! بسرعة قد ما تقـدر وباللي تبي!
نظر اليه السائق إليه مبتسما، ثم وفي هدوء أنطلق يغوص في زحام الذروة الصباحية، ولاحظ سعود أن السائق الهادئ المبتسم شديد الوسامة والأنـاقة وهو يرتدي ملابسه السعودية الفاخرة جـدا مع رائحـة العطور الفواحة وفوق رأسه غترة الشماغ وتوقعها من النوع الغير رخيص بلا شك وقد أعتـني بكيّـها في "صبة المرزاب" وفي تناسق مع وضع الـعقال على طريقة موظفي الدولة الإداريين "والواصلين منهم"، وكان بالـفعل وسيما ويبـدو أنه يبالغ في الحريص على تفريش أسنانه النـاصعة كاللؤلؤ مع الحلاقة كل صباح، فقال سعود في نفسه "لاشك بأن نظارته الشمسية الثمينة تخـفي أيضا عيونـا جميـلة كبقية ملامحه كما خمن بأنه موظف كبير وممـيز وربما هو مقتـدر وصاحب مصالح تجاريـة أخرى، وما هذا التـاكسي الا لـذر الغبار في العيون أو للمتعة ويتسلى أحيانا بنقل الحجارة من على الطريق "أمثاله"، لكسب الأجر والثواب فيهم! ثم نهر نفسه التفتيش بعيون الحسد أو الحقد في شؤون الناس وأحوالهم وأن الأجدر به أن يتفكر في مصيره الأسود القادم مع مدير القسم!
وقال في نفسه:
- المهم! خليني أفك عن نفسي الضغط اللي بيطلع
من خشمي وعيوني! وانا قدامي مثلها شحنات
جديدة وقوية من التهزيء وطاقم التعهدات والخصميات ولو أخلي ذي مع ذيك أكيد" أبنجلط" على الصبح!
خلني أفرفطها مع ذا "الجنتلمان" السعودي الشهم وما همني من يكون والمهم أفش "قرب" الضغط وما علي من ثقافته، وكني ما دريت!
وغاص بظهره في المرتبة وهو يضع رجلا فوق أخرى وبطرف شماغه المتيبس بالنشأ نظف عدستي النظارة الشمسية "اللقطة الثمينة" المصطادة من حراج بن قاسم استعدادا للبدء بجولاته واستعراضاته اللسانية المعتادة والخبير بها بالممارسة في كل مجال ومكان وفي أي حال:
- تصدق يا طويل العمر ان لي أكثر من ساعتين وربع وذول "البنقال" يشوّتون من جنبي مثل "الفشق! " طايرين، الله
لا يبارك فيمن جابهم!
وكأن السائق الجنتل ألتفت ونظر اليه مبتسما وتابع الزحام ولم يعلق، فأكمل سعود بحماس:
- يا خي ما يخلونها كلها "سعودة " صح وللي مثلك
و"شرواك"!.. ويريحون الناس ونفتك من ذول الرقيعية والرقاعة ومن كل مشاكلهم!
كان يتوقع هذه المرة مشاركة فعلية من "الجنتلمان" والذي شعر بمحدثه وألتفت نحوه بلباقة أكتفى منها سعود بن عبدالله برؤية ابتسامة أسـنانه النـاصعة البياض والتي شعر منها بمغص بأمعائه وهي تذكره بسواد أسنانه وما فيها من كهوف السوس المنخـورة ببراعة، فسارع الى تخفيض توتره بالاسترسال في الحديث ودون انتظار لأي مشاركات منه كالتي لا تسر ولا تخفف من ضغط:
- شوف يا طويل العمر! امسك الدرب اللي يريحك
بس انه يوصلني بأسرع وقت، وما ني مكاسرك
ولاني مقصر، وتستاهل الثلاثين وزود..
وشعر بأنه سيورط نفسه فسارع يستدرك منحرف لاتجاه آخر ينشد به ربما السلامة:
- ايه نعم! وزود عليـها حبة راس! تستأهل يا ولد العم ..
- والظاهر اليوم إني أخبصها مع ريس القسم!
ويمكن معاه المدير! والله يعين ...
وفجأة هتف بسعادة بصفقة قوية من يديه:
- الا افتكرت! البارح "الهلال" فايز! لأجلي شفت
سيارات الشباب والأعلام الزرق والصراخ وأنا
رايح الاستراحة، بس مدري فاز على من؟
أنتظر للحظة مصغيا وحين لم يجـد جوابا عاد بظهره الى المقعد ولكن أعماقه ممتلئة بالسرور من تلك المناسبة:
- لكن! الله يجزاهم بالخير! تدري ليه؟ والا بلاش
وكالعادة ألتفت السائق نحوه مبتسما مع انحناءة خفيفة بالرأس معـبرا عن سروره أو تفهمه ومساندته لكل ما يقال وعللها ابو عبدالله بعدم معرفته لا جابة السؤال أو الاجابة، ولكن سعود تذكر بأنه كان يجب الا ينتظر الاجابات من أحد حتى وان أخطأ بتوجيه السؤال لهم، فأكمل دون توقف للتكفير عن غلطته :
- هالحين! وعلى أو ل ما أوصل أبدخل بريس القسم
جنب! وألخمه بالمباركات وبزحمة الملعب وكثرة
الجمهور! والـدوخة والـتعب من التشجيع..
وبعدها أدخل به على طريق خريص! وما أدراك
ما زحام "خريص"! ثم أفحط به مع المفحطين،
حتى أوصل به لقسم الحوادث ...
رقصت رأسه من السعادة وهو يقول:
- وأكيد! اليوم بنسلم من الإنذارات والخصميات!
ويجعل الهلال يلعب ويفوز كل ليلة لو مع الحواري
ولأنه لم يعد ينتظر اجابات من السيد السائق الأنيق أو لم يعـد راغبـا بأي متحـدث غيره، ومن فرط سعادته ود لو يتحدث طوال اليوم بلا توقف:
- والسر! إني الله يسلمك نصبت على الريس السنة اللي راحت! وقلت له إني قلبت هلالي! وكانوا مثل أمس فازوا بالكاس وأنا كنت غايب عن الشغل قبلها يومين.. وعطاني زيادة يومين اجازة!
وبثقة بمهارته وبالموقف أكمل:
لا والله الا سلمنا! الله يديم لنا خبال بعض الناس ويسلمهم ...
وبفرحة عثوره على الحل الجهنمي ألتفت الى السائق السعودي ستزن، "الجنتـل"، الأنيق، والوسيم ولا مانع لدى سعود بن عبد الله الآن من قبول أي مداخلات أو مشاركات وقـد أخرج كما توقع أكثر الضغوط وخفّت عنه أعنف التوترات:
- الا بالمناسبة! الأخ هــلالي وإلا .. نصراوي؟
الهلاليين ينعرفون بكشختهم ومن أزوالهم!!
الا قللي هم فازوا على من؟
ما هو لازم أعرف ذي والا رحت وطي!
وتوقع السائق السعودي الشديد اللطف والأناقة بأن الراكب القى عليه سؤالا وخمن بأنه حول مدي معرفته بالموقع المطلوب أو الزمن المتبقي للوصول اليه، فالراكب منذ الصباح كان خـارج التغطيـة بالنسبة اليـه لشدة الزحام أو لأسباب أخـرى عديدة، وسيتفضل عليه بإجابة تثبت مدى تمكنه من أهم متطلبات عمله كسائق وهو الفهم! وتطمئنه بقرب الوصول، فقال وهو يهـز رأسه دون رقبته وبحركات منتظمة كتراقص بندول الساعة:
- ايس صديق؟ ايس كلام؟ انا فيه معلوم.. وزارة سميسي! بس سوية .. خمصه دقيقة مزبوطه، خمصة دقيقة .. انت في سميسي، أنا معلوم تمام!
وحمد الله في تلك اللحظة أنه أصبح فعلا بالقرب من مستشفى الشميـسي ليدخلوا سعود العبدالله فيـها كحالـة طارئــة ومستعجلة.
وأما سائق التـاكسي الأنيق فأنطلق فورا ليطوف شوارع الرياض وأحياءها وهو دوما خارج التغطية ولا يمكن رصده من شدة الزحام، ولكن! قيل أنه يشاهد يوميا ولأكثر من مرة وهو ينزل أكثر من راكب في طوارئ الشميسي!!
وربما هو المكان الوحيد الذي يعرفه والذي لابد أن يوصل كل زبون اليه!