. 14- النـّـداء الـخَفيّ
الطريق أصبحت طويلة ومملـة وأخـذ "سلمان" يشعر بالتوتر وبتصلب عضلات ظهره وأطرافـه. فمنذ ما يقارب الساعة وهو عاجز عن العثور على "تحويلـة" إلى طريق جانبية تكون مخرجا أو موقفا جانبيا أو ما يجد فيه أي مساحة يستطيع أن يركِن إليها بأمان في الوقوف وأن يخرج سيارته بالكامل عن الطريق الأسفلتي ذي الاتجاه الواحد والجوانب الضيقة على طرفـيـه وأحيانا هي شبه معدومة، حيث ينحت أحد الجانبين في الصخور التي يقتطع منها الطريق وعلى امتداد ســفوح الجبال بآلاف الأمتار نزولا حتى القاع، أما الجانب الأخرى فهي غالبا حافـة لهاوية بدون سـاتر وخلفيتها الظلام الدامس أو لمعان النجوم، لأنها في حقيقتها هاويـة مخيفة على منحدرات شـبه عاموديه بعمق يتجاوز كثيرا عن الثلاثة آلاف مـتر عن سطح الأرض في بعض سفوح القمم من سلسلة جبال الحجاز، أما هذا الشريط الضيقة على الجانبين من الطريق فلا يمكن أن يشاهدا كثيرا أو تستغل مساحاته من السنتيمترات الا في الأوضاع الحتمية عند الـتـقاء سيارتين من الجهتين المتقابلتين أو لتتجاوز أحداهما الأخرى من الخلف وهنا يتوجب عندها تخفيض سرعتيهما إلى أقصى حد ثم الوقوف والتجاوز بحرص شديد ومهارة، أما الوقوف الطارئ أو الاضطراري فسيكون على الطريق ولمدة قصيرة لإصلاح العطل وعندها تحدث أيضا ربكة شديدة وتتراكم السيارات والكثير من الإشكالات.
إنها طريق جبلية تشُــق سلسلة من الجبال الشاهقة الارتفاع عبـِّدت خلال عقود من المشـقـة والجهد الجهيد لربط سكان مناطق السهول الساحلية المنخفضة بسكان قرى المرتفعات وما وراء هذه الجبال من المدن.
وقبيل منتصف الليل كان قد بلغ بسلمان جوع وإرهاق تـجاوز حد قدراته القصوى على الاحتمال، وأصبحت في حاجة ملحة إلى أكبر وقت للراحة، أو يتحتم عليه القليل منها ووجب عليه التوقف فورا للاسترخاء وتفريغ نوبـة الـنعاس المتسلطة التي تتشبث بأجفانه وتفرش أمام عينيه غلالا ضبابية وأمواجا مـعتمة أخفت لأكثر من مرة عنه معالم الطريق، ويحدث أن يصفع من الرعب جبهته صفعة قوية يستغرق بعدها لحظات ليستعيد وعيه وتركيزه وحدود الطريق الحقيقية من جديد، وهذا ربما بسبب تأثير قوة الصفـعة التي تجعله يفقد الاتزان أو بسبب طول أذيال هجمة النعاس الثقيلة التي تلتفت حول أحداق عينيه فيلزمه ذلك الوقت الطويل لفك طياتها أو لطي تلك الأذيال بعيدا عن عينيه.
إضافـة إلى ذلك سـيل السيارات والشـاحنات المسترسل أمامه وخلفه مما يصعَّب عليه الأمور بـل ليقطع الرجاء تمـاما بالحصول على أي فرصة لأي وقوف.
إن ما أدى إلى وقوعه في هذه الورطة الكبيرة كونها المرة الأولى التي يسير فيها في هذه الطريق، والمرة الأولى التي يقود فيها في مثل هذه المسافات الطويلة والسير ليلا في ظروف محبطة مثل التي يمر بها، والأدهى من ذلك جميعه أن تعلمه لقيادة السيارات كان ولأول مرة أيضا قبل أشهر قليلة فـقـط وهذه الطريق مجهولة تماما بالنسبة إليه، فهو لم يعرف عنها سوى كونها تختصر نصف المسافة التي سبق وقطعها حين غادر قريته الواقعة في السهول بأسفل هذه المرتفعات قبل ثلاث ســنوات بحثا عن فرصة عمل في العاصمة، وكانت تلك الرحلة على ظهر شاحنة وعبر طريق أخرى على امتداد الساحل اسـتغرقت خمسة أيام كاملة بلياليها من المشاق والملل.
- ليتـني أستطيع النـوم الآن لسـاعة واحدة
فقط"
هذه العبارة هي ما يريد أن يراهن عليها بشهر من عمره، ثم رفع الرهان إلى سنة وسنتين، وفيما بعد وجدها عادلة لو تنازل مقابلها عن عشر سنوات من عمره ومع هذا تظل ساعة النوم الواحدة أثمن بكثير.
تحجرت أفكاره وبالغ بالأمنيات حتى طرأت لـه فكرة وتمنى أن تسهم في حل معضلته ويهزم بها النعاس والإرهاق، فقرر أن ينشط تفكيره وعقله بفتح المشاكل أمامهما ، بأن يبدأها أو يبادر بفتح ألأبواب المغلقة في صدره، ومن خلال فتح قيامه بحوار مفتوح مع نفسه، كأن يتخذ منها صديقا أو طرفا آخر في الحوار فيخفف بهذا من العناء ووحدة الطريق. فأقسى مسافات الأسفار بالرفيق تقطع، وكل خطوة فيها بـالرفيق تصبح أمتع وأنفع!
وأخذ يمهّد للأمر مع نفسه بأن يبحث عن مشـاكل موءودة ودفينة بـأعماقه ويزعجه خروجها من صدره علنـا وعلى لسانه وان كان وحيدا:
- ليست كل الأمور تؤتى هكذا جزافا..
قـالها وبـدأ مستهلا الحديث مع نفسه، وبصوت مرتفع:
- يا أخي هذه الشاحنات لا تتوقف أبدا
- لأن فيها فريق من السائقين يتبادلون المواقع دونما حاجة للوقوف للراحة والنوم...
- لا! يا أخي! أظن بأن أهم الأسباب هي تطور مقدرة هؤلاء
السائقين على التحمل لكثرة أسفارهم الطويلة، أما أنت يا
مسكين فكما قال المثل: ( ما فكرت تقوس قبل الغوص ) ..
- لا ، لا ! فيه مثل آخر أحلى: ( أول ما شطح نطح )! لأنك لم تتعلم القيادة إلا منذ أشهر وورطت نفسك بسفرة مسـافات طويلة من الوزن الثقيل دون احتياطات أو تخطيط أو توزيع للجهد، والأهم دون التوقيت المناسب..
- يــا ربّي ! لا أعرف حقيقةً ما الذي جعلني أتـّخذ مثل هذا القـرار الصعب بهذه السهولة وأقوم بهذه المجازفة الخطرة؟
- حقيقــة! لا أدري كيف أفسرها؟
ولكن سأحاول أن أجــد إجابة لهذا السؤال العويص!
- فلأجعلها إجابات عديدة ومرسلة، ومن المؤكد أن أحداها سيصيب .. وربما جمعيها!
- ولكن ! هل من الممكن أن أكون صريحا مع نفسي؟ ومطلقة؟
- ربما ؟ وسأحاول! ولكن عندها سأكون وقحا عليها وأمامها!
- إنها ليست الأولى! يا سيدي! والأهم أن تكون صادقة وحقيقي، وبالتأكيد ستدفن من جديد بانتهاء الأزمة ...
فجأة هتف بصوت عال كأرخميدس:
- وجدت إجابة حقيقية: أنا سافرت لأفتخر بنفسي وبالسيارة التي اشتريتها في أرجاء القرية، فساقني غروري دون خبرة أو استعداد، أو اصطحاب رفيق لمساعدتي؟ وانه لجنون الغرور..
- أوه! هذا تحليل مزعج! أظهرني سيئا جدا!
- ولكن وللحق فيه شيء من الصحة بنسبة مئـة بالمائة.
- ولكن ماذا لو سألني أحدهم هذا السؤال من أهل الديرة.. أيكون هذا جوابي؟
- بالتأكيد لا! سأبحث عن إجابة أخرى. والأهم أنها حقيقة!
- حقيقة؟ أتريد إجابتي بأني قطعت كل المسافة وقمت بهذه المخاطرة لأنني أحسست؟ أو ... لأني رأيت حلما؟
- ولكنها حقيقة! ونسبة الحقيقة فيها مائتان بالمائة!
- ولكنها مؤذية!
- يا أخي: غالبا ما يكون قول الحقيقة بهذه النسبة مريرا ومهلكا!
- نعم ! ومن الحقيقة ما قتل! واسأل المجربـــين...
- لا! لن يكون جوابي صريحا وأحمقا على هذه الصورة! وسأبحث وأعترف بشـيء آخر! والحقيقة تكون مئوية كاملة!
- نبشها لأرى وقعها على نفسي أولا يا أخي! لأنها ستقال للجميع! ويتناقلها الجميع..
- إذا سـأقول لهم: إني اشتقت! اشتقت لكم!
- نعم ! فأنا اشتقت للجميع، ولم استطع تحمل مزيدا من الأشواق..
- واني جئت أفرغ شيئا من أحمال قلبي المثقل بها، وسأعود به خفيفا ما أمكن. وسأعود إليكم في المرات الأخرى حالما يمتلئ، لأنه عند امتلائـه تفور دواخلي، وتفيض منها آلام الأشواق وتتفجر الدموع من قســوة الفراق، وأجد كل أرض بها أنـاس غيركم لا تطــاق، وتضعف كل جدران المقاومة فتتحطم، فأصبح وعاء مكسورا، لا شيء يستقر فيه أو بداخله، وأنا لا أعود صالحا لشيء أبدا...
- أجل! فأنا اشـتقت لأبي، ذلك الرجل القوي الذي تتدفق أكثر قوته وعاطفته حين تحيط بي المحن ويقدِّم روحة رخيصة ليحميني وكل ما يملك ليسـتر عورتـي، ويهب لي كل راحته حتى في مرضه تـشـتد عزيمتـه ليغذيني ويتتبـعني بعينيـه الكليلة وقلبــه المنهك خطواتي الطائشة والمتعثرة حتى أســير بالأمان، ولا يغمض له جفن حتى أنـام ...
-
- آه..أمي! الحق الحق ! اشتقت كثيرا لأمي! وهي أقوى حقيقة!
- يا الهي ! إنها لملاك إلهي في صورة البشر، إنها محيط الحنان الذي لا ينضب، كم اشتاق لرؤية وجهها الحبيب الآن ولضمـة صــدرها الحنــون، وكأني استنشق من ريح الجنّة!.
- أتذكر؟ حين كنت أشاكسها دوما حتى تغضب ولكنها تهرع إلي لـتحتضني.. وأعجب!
- حينـهـــا لم أدرك أنــها لا تريـــد أن تـغضب يومـا عليّ، أو تــُظهر الـغـضب! شفقة! حتى لا يغضب علي ّ الـرّب، وأنــا كنت أغضبها ليس عقوقــا، بل حتى أحظى بتلك الضـمة المشـفـقـة، التي أراهــا بالدنيا، واعتدتها شــوقــا...
- يـــاه! كم اشتقت لإخوتي! أشــقاء الجسـد والروح .. ثلاث سـنوات! هذا كـثير يا إخوتي.. هذا كثير..
- كيف استطعت فراق عشرتكم؟ أن أخطو طريقي الطويل هذا بدونكم؟ أن آكل الطعام مع أغراب غيركم وأنام ليلتي في منزل بعيد عنكم، وبدونكم.. هذا غريب!
- وآه، معها آهات أخرى! إني أشــتاق "إليهـا" حتى الجنون! خطيبتي مريم! إني اشـتاق إليك شوقـا مختلفــا !
- انه دائما.. ملتهب، محرق، لم أكن اعرف أن للنار ألوان حتى اكتويت بأشواقك وعرفت جميع ألوان النار!
- بل كنت أصنعها بنفسي لنفسي، لأدفعها مهرا للحب الذي يرفض الدفع بالمال.. واني سعيد بأن سـددته كاملا لـخازن الأشــواق وأتيت اليوم ومعي مـهر العيش وبناء العش.. فطريق الحياة بدونك سـفر شـــاق لا يـطـــاق...
- جئت ومعي هدية! هي مفاجأتي!
فقـد وفرت ثلاثـةَ أعيادٍ لأصنعها عيدا
واحدا، ليكون.. عيــدا ثـلاثي الأبعـــاد،
وكبير جدا، جــدا، جــدا...
توقف سلمان للحظة ثم ضحك بصوت عال ضحكا ساخرا ومتواصلا حتى أدمعت عيناه وختم قائلا:
- يا أخي! كفى أشــواقا وأعترف! اعترف بشيء هو
أكثر تحديدا..
- حسنا أنا سـأعترف ولنفسي فقط! نــعم لنفسي!
فليس بيننا غريب .. ها ها
- و"بالحق" هذه المرة وكما سبق، أن سـبب المجيء..! لابد انكِ يا نفسي تعرفين! وانت فقط، ماذا رأيت في الحلم؟
نعم! في حلــــم ليـلـة البـارحــة!!
- غريب ما رأيـتــه؟! وذاك النداء الذي سمعته!
- سأذكره لكِ.. بالتفصيل.. حيث رأيت.. آه ه ه أأأ.. يــا الهي..
في هذه اللحظة فقـد ســلمان الســيطرة على مقود السـيارة عنـد منعطف مفاجئ وخطير فاندفعت السـيارة في فضـاء الهـوة المظـلم زمنـا من الوقت قبل أن تصل إلى تـربة أرض السهل الساحلي في قاع منحدرات الجبال الشاهقة، ولكنه أكمل خلالها آخر الحديث مع نفسه:
- الآن عرفت وفهمت ســر النـداء.. وأنــا لـه استجبت.. ولأمر الله لبيك:
أشـهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله..
*******
[b]