مجلس العصاري
توقف الصبي عن الركض بعد أن نـظر الى الخلف وكان يعدو بين مجموعة الصبية الذين يطاردون الكرة، وقال بصوت عال وهو يؤشر بابهامه خفية الى ناحية بعينها عرفها الجميع:
- خلاص يا عيال! وقفـوا كـوره خلاص ..
وكأمر قيادي توقفت أرجل الجميع بعد أن توجهت أنظارهم بسرعة وبنفس اللحظة نحو الوجهة أو الهدف المحدد بالاشارة، وكانت نحو ر جل يجلس غير بعيد على عتبة أحد البيوت، وينظر الى ساعـة يـده بتركـيز شديد، ومنذ عدة ساعات لم يرفع خلالها بـصره بعيدا عنها أبدا، انه يترقب باهتمام بلوغ عقارب الساعة وقتـا محددا، ويبدو أنه شديد الأهمية بالنسبة له، وقد أحس الصبية باقتراب ساعة الصفر، فأقفوا جميع نشاطهم أو تحولوا به الى شارع آخر، وان تأفف البعض وأظهر أغلبهم الامتعاض الا أن كل منهم سار بهـدوء وصمت نحو المكان الذي تـرك فيه حـذاءه او غتـرته أو كتاب، وتـفرقوا في اتجاهي الشارع أفرادا أو بمجموعات صغيرة يتبادلون الحديث والضحك أو يـلاحق بعضهم بعضا، بينما الرجل مستمرا بالتحديق في ساعته منتظرا الحدث وربما زائرا مهما حتى الصبية أسهموا معه في اخلاء الشارع وهدوئه ورغم أنه يعتبر من شارع متوسط الاتساع ومن شوارع الحارات الداخلية بمبانيها التي يغلب عليها الطابع الشعبي من بيوت أغلبها من ذات الدور الواحد أو من الدورين ودهنت بالسائل الناصع البياض المسمى بالرخام الا أنـه يتميز بحركة لا بأس بها من المارة والسيارت العابرة لتواجد بعض المحلات التجارية الصغيرة والبقالات على جانبيه، والغريب أنها شاركت الصبية وبدأت بالانحسار في تضامن عجيب من أجل الرجل، الذي قفـز هذه اللحظة وربما أزف وقت المهمة أو وصول الزائر المهم، وأستدار بسرعة فاتحـا جانبي باب منزلـه أو "الدرفتين" وخرج يحمـل سجادة كانت مطوية وجـاهزة في الدهليز، وأنطلق بها الى وسط الشارع وبحث عن مكان محـدد مواجه لباب البيت وفرش فيه السجادة على الأرض، وراح يرتب وضعها بعناية حتى تأكـد من سلامة العمل، وأتجه مهرولا الى الدهليز ورجع حـاملا الوسادة الأولى أو "مركأ" وأتبعه الثاني فالثالث، وحدث بعـد بدء المهمـة بفرش السجادة أن جاءت من طرفي الشارع أكثر من سيـارة وتوقفت في مكان ما قبل السجادة وكان يبتسم أصحابها ودون أدنى تعليق يعودون بها الى الخلف من حيث أتوا، وهكذا فعل كل من أتى بعدهم، وخرج الرجل أخيرا يحمل بهدوء صينية نحاسية كبيرة، فوقها ابريق شاي كبيرة الى جانبـه"دلـة قهـوة" براقـة وحولهما فناجيل لامعة كثـيرة، ونقل الصينية أكثر من مرة الى أكثر من موضع وتبين حرصه بأن تكون في وسـط السجادة تماما وبدقـة، وترك كل شيءوعاد راكضا وألتقط"عجراء" كانت مسنودة جوار الباب طـوال الوقت وان كان يعلم الجميع بوجودها فلاشك هذا أسهم بايجـابية -بطريقة ما- في اخـلاء الشارع وفي الاعلام ومراعاة وقت الحظر، ان لم يكن نابعا بداعي التضامن الذاتي، ورجع الرجل بالعجراء أو الدبسة، وقل أي مسمى ففعلها واحد، وسار بهدوء وأخذ يدور حول السجادة وينظر باعجاب اليها وعلى ما فوقـها ومن كل الزوايـا ويركض ليصلح أي نشاز حتى أستوى في نظره الأمر، ثم سار مبتعدا مسافة مترين عن هذا المجلس البديع في الهواء الطلق، وجلس على الأرض واضعا العجراء أمامه مستمتعا بالمشهد وحسن عمله، وأخذ يستقبل بضحكات غبية مكتومة عبارات الاعجاب التي يهتف بها أصحاب المحلات المحيطة وكل من يمر من خلفه، والظن بأنها المساحة المسموح منها عبور الشارع وغير معروف كيف عرف الجميع –بطريقة ما- بهذا النظام ان لم يكن مساهمة ذاتية، وأخذت تنهال عليه الأصوات بالاعجاب وهو يطأطئ رأسه تواضعا وخجلا ويهتز جسمه مع خروج كل ضحكة متقطعـة بلهاء كلما سمع عبارة جديدة:
- ما شاء الله يا ابو صايل! فرشتك اليوم أجمل
وأغلى من فرشة أمس!
- مبروك يا ابو صايل على المجلس الأبهة .. أوه!
يا هنيـك، أي والله!
- مبارك عليك يا عم صايل على السجادة العجمية!
- يا سلام على المجلس، وعلى ذا الابريق والدلال
والفناجيل! واش الكرم الزايد هذا.. يا أبو صايل؟
والملاحظ أنه لم يضيف أحدا، أو يطلب من أحد الجلوس لتناول فنجالا من الشاي أو القهوة، كما لم يتجرأ أحد على فعلها أو طلبها منه ، وهناك من لا يمانع بالموت على أن يعرف كيف ومتى فهموا هذا الأمر؟ ولكن يظل ما هو معروف عن تاريخ "جلسة العصاري الرومانسية" هذه أنها قائمـة منذ خمس سنوات وفي وقتها المحدد دون انقطاع، وقد فرشت حينها في ذلك اليوم نفس السجادة ووضع جميع ما عليها الآن من الأثاث ودون أي نقص، وكان ذلك في تمام الساعة الرابعة وعشرة دقائق وصفر من الثواني وأستمرت حتى الساعة الخامسة وثلاثين دقيقة وصفر ثانية حيث يزال كل أثر لها فورا، ومنذ ذلك الحين لم تزل تلك المناسبة القديمة مستمرة وما زالت نفس الأواني لم تستخدم وسجاد المجلس جديدا لم يجلس عليه عليه أي ضيف أو أي انسان، حتى هو نفسه كان يجلس بعيدا عنـها، وعلى الأرض!
وفي تمام الساعة الخامسة وثلاثين دقيقة وعدد من الثواني تكون حركة مرور السيارات وغيرها من المركبات في هذا الشارع أكثر من طبيعية وسلسة، وقد تعودت ناس هذا الشارع ومن أعتادت المرور فيه هذا الوضع وكان يتقبله الجميع بابتسامة متسامحة وبصفاء قلب حتى أفراد قلم المرور- مسمى ادارة المرور وكامل خدماتها- لم تسجل أي حادثة في امتداد هذا الشارع خلال هذه الفترة وطول السنوات الخمس الماضية، ولهـذا فالتقـارير عنه دائما مميزة! وأعتبرتـه "شارع آمن جدا " وخارج تغطية أي دوريات مروريـة خلال تلك الفـترة الزمنية وبالتحديـد! ****