الساهي ابراهيم Admin
عدد المساهمات : 79 تاريخ التسجيل : 14/04/2012
| موضوع: المقدمة للحكاية الغريبة والرئعة " جـنون الطفـلة العاشـقـة!" الأربعاء مايو 09, 2012 11:09 am | |
| " هـبــة الله " كانت في نهاية الشهر الثالث من عمرها عندما اختفى أحب وأغلى ما تعودت أن تراه متى وأين تفتحت عيناها كلما أفاقت من أي فترة رقاد، وحتما تساءلت نظراتها في نهاية هذا اليوم أين؟ ولماذا؟ حين افتقدت كل هذا ولم تعد تظهر تلك الصور وما تحمله لها وتراه في العيون والقسمات واللمسات والهمسات المليئة بالسعادة، وصمتت أصواتهما، بما كانت تغرد به من أجلها.
لم تكن تدرك بأنها فقدت وستستفقد كل ذلك، وللأبد! بفقدها لوالديها، اللذان فقدا حياتهما في ذلك اليوم! ولم تعلم أو تشعر بما حدث في ذلك اليوم! واطار السيارة التي تقلهم ينفجر فجأة مدويا ويختل توازنها، واستحال على قائدها السيطرة عليها، وهي تترنح وتترك طريق السلامة وتختار طريق المأساة المروعة.
لم يكن فيها سوى هذين الزوجين الشابين وابنتهما، الجميلة الحديثة الولادة، والسيارة ترتطم وبمنتهى القوة بجانب الجبل الواقف كالحائط من كتل صخرية عملاقة، وما إن ركلها بقسوة حتى قفزت مبتعدة، ثم انطلقت تترنح وكثور هائج، تزبد والأبخرة تتصاعد من مقدمتها كما لو أنها تحمل كل غضب في الأرض تنطح به الساتر الإسمنتي في الجانب الموازي من الطريق، فأصبح هشا - كرقاقة بسكويت- والسيارة تخترقه وتعتلي محلقة في فضاء هاوية جبال "الهدا" الشاهقة، فتمتصها قوة الجاذبية لتهوى في الأعماق ولترتد مرات ومرات، ككرة بلاستيكية رائعة المرونة، على نتوءات المنحدر العملاق وعلى جوانبه الصخرية الشديدة الصلابة، قبل أن تستقر أخيرا فوق أحد السفوح، في أبشع حادثة ظلت أحداثهـا حكايات مؤلمة في ذاكرة أهـل البلدة والمناطق المحيطة ولوقت طويـل.
حينها كان الشابان في طريقهما إلى "بيت الله" في مكة المكرمة لأداء "العمرة"، وحقيقتها لهم صلاة شكر لله تعالى ووفاءً نذر قطعاه في اليوم السابع من ولادة ابنتهما، بعد إشراق جمالها في جنبات دارهما وفي حاضر ومستقبل حياتهما، فوهباها اسما مركبـا "هبة الله"! يؤكـدان به عظيم امتنانهما بما أنعم الله عليهما به من فضله، وقد وهبهما تلك الروح الحيـة الرائعة الجمال، وآمنـا حقا بأنها "هبة" جميلة من الله! أعظم قدرا وقيمة في قلبيهما وفي ناظريهما من كل كنوز الدنيا، وكانت تتلألأ كأجمل صورة مما خلق الله على وجه الأرض، ولهذا ظلا يخططان للوفاء بهذا النذر، إلى أن سنحت وتحققت لهما في ذلك اليوم، وبحماسة الفرصة - الأخيرة- انطلقوا مع بزوغ الشمس وقد صحبتهم - كالعادة- الإرادة الإلاهية بالمكتوب، وفيها ما كان في ضحى ذلك اليوم، وفيه أيضا المعجزة التي أنجت الرضيعة من جوف وطيس ملحمة، تفجرت وأطرافها من الحديد والصخر من أجل حكم أمر فناء مقدس، ولكن حضرتها وظهرت إرادة إلاهيـة خفية أخرى، وقد شوهدت وهي في خفائها، فلم تخالطها الشكوك!
وكانت الأشد روعة في تلك المواجهة والفاجعة في انتشال الرضيعة من بين أضراسها وفي الوقت المناسب، وقبل أن تسحق بطرفة عين، وقد كانت بين جبروت الصخور والفولاذ، وفي جوف تلك السيارة وهي تنكمش، وكقطعة عجين مرنة تتحول أخيرا إلى كرة حديدية عديمة الملامح، ولكأن - لقمة- اللحم الطرية الهشة نسلت كالشعرة أثناء المعمعة والهيكل المعدني يتعرض للركل والعجن والخبز حتى استقراره، جثة - منهكة- هامدة على شفا ذلك السفح، فقبل هذه النهاية كانت أيـادي فضية براقة أستحال رؤيتها وشفافيتها تتجاوز لون الأثير حملت الرضيعة بكل الرفق والحنان وتضعها في ظل صخرة رؤوم بأمان، والأعجب! أن الرضيعة ما تزال يحيط بها كامل دثارها وفي كامل أناقتها، ولكأن والدتهـا فرغت من لفها وترتيبها بكل عناية وغادرتها للتو في شأن وتركتها تلـهو مع نفسها تناغيها حتى تعـود، وكان ما حدث!
أن هناك من سبق الأم في العودة المنتظرة وهي الغير مأمولة، وأتجه ووصل إلى الرضيعة إلى حيث هي وكأول رجل أو إنسان، وممن شهدوا حدث سقوط السيارة، وكان عند وصوله المكان وقف في اللحظة متسمرا، وهو لا يرى أو يجد فيه إلا بشاعة الفنـاء وروائح المـوت والصمت، ثم أخذ يتتبـّع بأذنه والبحث بعينيه ثم جال بأقدامه عن مصدر صوت غامض، شك بأنه يسمعه خافتا في مكان ما بين الصخور، وما زال الصوت يزداد وضوحا، وقلبه يخفق بقوة في تجويف صدره وكلما اقترب سمع ذلك الخفقان دويا كقرع الطبول، ووقف على ما لم يخطر بأعماقه من مشاعر وخواطر متناقضة ومليئة بالحيرة والشكوك، حتى وهو يرى بأعينه تلألؤ أروع من جوهرة عظيمة تتألـق في ظل وعتمة الصخور، واتسعت أحداقه وفيها مشهد رضيعة تتوهج جمالا، حيث تركتها العناية الإلهية ملفوفة بأردية مهـدها، وأمتـلأ دهشة وهو يرى تلك الرضيعة تميل رأسها نحوه وتنظر اليه بفرح، وتمكنت بتحركاتها السريعة من إفلات ذراعيها الصغيرتين وان تمدهما وهي تصرخ بهجة تردد ضحكات طفولية عذبة وفي حماسة الشوق تحثه أن يسرع ليرفعها، وكأنها ملت جفوة وقسوة الصخر، وأن يحملها بين يديه ويضمها إلى صدره ويمسح وجهها بوابـل القبلات، فهي ومن مثـلها لا يحتملون العيش في وحدة ولا يطيقون البعد عن الأحضان.
هزه هذا المشهد! وأفاق بهزات أقـوى وأشـد عنفـا في روحه الممتلئة بالشجاعة والمتمرسة على الأقدام، جعلت أقدامـه تنطلـق بغير وعي ركضا في كل اتجـاه وأحاسيسه تسابق بصره وهو يفتش ويكثـف السعي في كل ناحية حول المكان بين الصخور، بحثا عن مشاعر مجهولة أخرى تحدثه بها نفسه، وأولها البحث عن أمها، التي تركتها في هذا الوضع، وفي هذا المكان الآمـن، بعيدا عن كتلة الموت والهلاك، وتفاعلت كل حواسه تتقصى بعزيمة وجد عن أي أثـر لها، ولتأكيد كل ما يحمله من احتمالات أكبر مما يغلب عليها الظن بوجود أحياء غير هذه الرضيعة، ومن قد يحتـاج للمساعدة!
لهذا لم ييأس ركضا وتفتيشا، ولم يقرر التوقف إلا بعـد جولات عديدة متفحصة وكانت كلها ثبت له العكس، وباستحالة وجـود أي مخلـوق بشري حيّ في هذا المكان عـداه وهذه الرضيعة! فعـادت به أرجله سريعا إلى مكانها ليتحقق أيضا مما رآه، وبأنها ليست وهما! والمكان يصرخ بالحقيقة العجيبة والرضيعة في مكانها، وها هي عادت تغرد له من جديد لرؤيته، وتحثـه على الإسراع لحملها عن الأرض، ومعبرة عن اقتراب الملل في محاولات جادة لرفع جذعها للأعلى فيرتفع الجزء الأسفل بأرجلهـا، وتوالت المحاولات الفاشلة منها للنهوض أو للطيران نحوه، فكان منه أن جثـا على ركبتيـه مرددا "الشـهادة العظمى" وخرّ لله بجبينه على الأرض ساجدا، وسكن في مكانه لوقت، وحين رفع رأسه كانت أدمعـه تهطل بغزارة تبلل بها وجهـه وتنحدر إلى ذقنه، وسبابته منتصبة وهو يشخص نحو السماء مسبحا ومبجـلا رب السماء ولسانه متصل بالتهليل يلهج بما يتفجر في صدره من مشاعر الإيمان بالله وبواسع قـدرته وإرادتـه في صنع المعجزات.
نعم! حدثت وتحدث دوما مكرمات ومعجزات إلهيـة، وهي تغرق الكون في كل ثانية، وأن فضلها في النهاية ودوما ينصب في كل كونه وعلى جميع المخلوقات، وأغلبها الساحق هي معجزات لا تدركها حواسنا، والمؤكد هي أجل وأعظم وبملايـين المرات ممـا وجـده هذا الرجل في هذه الرضيعة، وهي كالذرة مع غيرها من المعجزات، ولكن مثل هذه حين تتجلى ونتدبرها بحواسنا نرى هائل ما فيها من نور يقتحمنا كأعظم المعجزات.
ورغم أنا لا ندرك من هذه الوقعة إلا نهـايـة المعجزة والظاهر منها بالحس البسيط والمجرد عن التفاصيل للحدث، إلا أن العقل يقم بإكمال وتخيل ما لا تشاهده الأبصار، في إيحـاءات لا تظهـر على حقيقتـها لأعيننـا وما فيها من جزئيات ولكننـا ندركها ونحس ونتعرف عليهـا بالعقل في أعماقنـا فقط، ولا نملك ألا أن نسلم، كهذه التي جعلت هذا الإنسان البسيط يخـر راكعا خاشعا لله وفي ذهول، وكأنـه رأى بعينيه أو مسبقا كل ما حدث من التفاصيل منذ لحظة انجراف السيارة، وشاهد عظمة الله وقدرته تتحكم في هذا الموقف وبهذه السيارة بكامل هيكلها وملحقاته من الحديد والبلاستك والجلود والأقمشة وبجسدي الزوجين حتى أصبحت جميعهـا كتلـة كرويـة مصمتـة ترفض التفكك والدخول بينهـا أو الانفصال عن بعضهـا إلا بقوى جبارة أخرى مماثلة ومن الحديـد والنـار، ولكن! كيف نُسلت هذه الرضيعة من ذلك جميعه وهي الهشة البدن والرقيقة العظام وبسلام تـام وتحتفظ بحس الطمأنينة وفي منتهى السعادة، مع أن الرضيع هو المعنى الوحيد المتكامل المحدد للكلمة الشاملة في وصف معنى العجز المطلق! للاستحالـة الكاملة لقـدرة أي رضيعة على الاختيار، وعلى التدبير، وعلى العمل وكذا النجاة بذاتها، فيستحيل أن تحقق أي أمر لنفسها بدون مساعدة! ......................... | |
|