18- حكاية الجدة أم الشهداء
رأيتها !
جدتي " أم الشهداء" وتلك كنيتها !
ولست أدري ؟ هل كانت رؤية حق؟ أم أضغاث أحلام ؟
رأيتها صبية نضرة، مكتحلة العينان وتتراقص البسمات في سـمرتها الشـرقية، وعلى كتفها عباءتها المنقوشة بالقصب والحرير، وبين أشجار باسقة الأزهار في حديقتها الصغيرة تتهادى بخطوات حالمة وهي تحمل بيدها باقـة فيها زهرة من كل صنوف الورود والأزهار المتوسـطية المتفتحة في الحديقة بجميع تمـازج ألوان الطيف، وتضمها بحنان إلى صدرها وتشمها مستمتعة بأريجـها الفواح.
ورأيتها تدخل إلى كوخها المتواضع، كوخ الأجـداد، العتيق في ظاهره وتحت سقفه الدفء والمتعة والحب، فعلى بابها حين فتحته اندفعت إليها مرحبة بـها واحتضنتها بعنـاق المشتاق ما ينبعث من مبخرتهـا محترقـا على جمـر الأشواق من البخـور، وقد أنتشر حاملا عبـق الشـرق وعبيره إلى كل الزوايـا وتستقبلها في الصالة الصغيرة "الطيب" وروائح العطور فتختلط مع ما تحمله من الورود والزهور فتنعش فيها الروح المثقلة وتتلاشى منـها متاعب انتظار الأمل وعناء الأشواق لأهلها والحنين للجيران وأهل الحقول فلا يبقى فيها سوى السرور وراحة القلب وبـصرها يجول وترى بالعـين كنوز الأجـداد كما تركوها إرثـا وأمانة قيمـة ومازالت حيث وضعت أول مرة ومازال بريقها يتألق في متحف كوخها الصغير، فما على جدرانه وفوق السجاد وعلى الأرضية وتحت السقف كل شيء بهيج وفي غـايـة الأناقـة وفي الترتيب المتناسق للمحتوى والمناسب لبساطة المكان مع العراقــة في الأرجاء.
ثم اتجهت بهدوء إلى حيث حجرتها وما أن فتحت بابها حتى شع بريـق عينيها بالسعادة وأخذت تحوم وتحوم بخطواتها كفراشة مغرمة هائمـة بغريـزة البحث عن العشيق وليس الرحيق، وراحت توزع ابتساماتها المشرقـة بالودّ على كل ما تلمسه بأنـاملهـا الرقيقة أو ما تمسه بأطراف بنـانها المحملة بالقبلات المرسلة من شفتيها، ثم أخرجت منديلها الأحمر وأخذت تمسح بطرفه بوداعة المنمنمات الصغيرة وبراويز الصور الذهبية وذلك الشمعدان الفضّي الذي يتوسط المنضدة المستديرة في وسط الحجرة، فـإذا هو مصقول لامع يكـاد بريقـه يـضيء الغرفـة كما لو أوقـد بالشموع، ثم مالت إلى الرف الصغير تحت المرآة وما عليه من قواريـر خزفية صغيرة مختلفة الألوان حوت زيوتـا ودهونا عطرية، فوضعت منها مسحات على وجنتيـها.
وهي تحب أن تقتـني كل ما كان جميلا وصغير الحجم وقد احتفظت بالكثير من أدق وأرق تلك الأشياء في غرفتهـا، ووزعتها بعنايـة وتنـاغم مع ما يجـاورها وما حولها حتى أكتمل المتحف، وهتف بالروعـة معبرا عن شخصها ولمساتها
وفيض قلبها من العواطف الجياشة والعامر برقـة الإحساس.
كانت تحمل بحنان كل قطعة بين راحتيها وتقربها لتلامس وجنتـها لتمدها بدفء الحب، وتطبع بشفتيها قبلات اشتياقها بينما تهمس لهـا بأمانيها وبأحلام طفولتها، ثم وبعد أن تحوم راقصة بها للحظات تعيدها إلى مهجعها بهـدوء وعنايـة لتحمل المحظوظة الأخرى..
إن ذكرياتها بمساحة الحديقة وكل أرجاء الكوخ مع غرفتها الصغيرة، في كل ذرة من الأرض وفي الحيطان والأسقف، وكل تلك الأشياء عزيزة على قلبها.
ولم تكلّ أقدامها وهي تخـطو راقصة مع كل منمنمة وأيقونـة وبدون توقف، وتردد وتعيــد بصوت رخيـم أنشودة ومازالت ترددها كل يوم وكل حـين ومنـذ الصبـا، ربما كانت تتحدث عن شوقها لحبيب أو قـريب، ولكن كل ما حولهـا يظل يعزف لها اللحن ويشاركها الغنــاء، وبسـعادة.
وبين فينـة وأخرى كانت تنجـذب مسرعة إلى النافذة المغلقة وتُـلْصق أذنها وتصيخ مرهفـة، وتشحذ السمع!
عله يصدق هذه المرة في وعـده!!
هذا ما كان يراودها من الهواجس والأماني، منذ الدهر، والواقع ما زال حتى الساعة يلقي إليها بظهره..
فيطول انتظارهـا، وتعود كسيرة تـقضم أطراف أظافرها خجلا وعلى وجهها مسحة من الحزن!
وسرعان ما تستبدلها بابتسـامة سـاخرة، انها تعودت هذا الواقع كل أيـامها الماضية، وتدرك أنها أصبحت ألعوبة للهواجس المناكفـة، وهي تكرر عليها لعبة الخداع ككل يوم، كما تتكرر بي الرؤيـا حتى كانت الرؤيا لها في هذا اليوم، بعد أن ولجت جالبة باقة الأزهار كالمعتاد مع لحظات الشروق!
فقد رأيتـها تلتصق إلى البـاب بجميع جسـمها، بالهمة والتحفز في أعماقها، وبجميع حواسها تستمع لوقع الخطوات المقبلة حقـا..
فالحـق دائمـا يـظهر كهـذا الشروق كالـنـور، أو تحت الأضواء.
وبـدأت برقصاتها، وأخذت خطوات الرقص تتسارع مع نبضات قـلبـها، ومع سرعة وقع الخطى القـادمة..
وتابعت الرقص، تدور كالنحلة، ترقص وتحوم..
وتحوم، ولكن... ؟
إيقـاع الرقص يأخذ بالتثـاقل، وكأن إيقـاع الخطوات أخذ يزداد بـطـئـاً، حتى .. تـوقفت!
توقف كل شـيء تماما!
وتوقفت آخر خطوة للقـادم قبل عتبة باب الكوخ ببضع خطوات..
وفي هذه اللحظة انهـارت على الأرض، جاثية على ركبتيها، تلهث أنفاسها ودقات قلبـها تخفق وتبـتـهل:
- أرجوك! لا تتردد!
- أدخل! ولا تســتأذن..
- اقتحم عليّ البــاب..
وبينما يمر الوقت بالثـواني والسـاعات كالعقود، فإذا أعماقهـا تصرخ جزعا وهلعـا!
انها تسمع وقع خطواته من جديـد وقد بـدأت قوية جدا! ولكن!
هـا هذه المرة.. بتسارعها مرتــدة على عاقبيـها، مبتعـدة! وأخذت في الابتعـاد، وهي ما تزال تسمع صوت الخطوات يخفت، ويخفت بإذنيها حتى..
سمعت صمت الخطى .. يختفي تمامـا في قعر صفير الريـح التي بـدأت تعلـن عن قـدومها من البعيــد.
ولكأني كنت أرى كل ذلك يحـدث بينما أخذت معالم الهـرَم عليها تخـطو متزامنـة مع كل خطوة كانت تبتعــد بالقـادم كنت أراها تجاعيد على وجهها، وكفــها وذراعيها، ثم كل عضو في جسدها!
كانت معـاول الشـيخوخة تحفر وتنخـر بسرعة وبهمـة!
وفي آخر خطـوةٍ لـهذا القادم الذي لا يـــأتي.. كان قـد أتمّ السوس نـخر آخر عـظمـة فيها.. تبقت من سائر كل الجسد!.
فانزوت الجدّة العجوز في زاوية الكوخ!
وتوالت الأيام، والعفاريت تلهو بها، توهِمُها بمقدمه مقبلا من البعيد، بالطبول والأجراس وبالأبـواق والزغـاريد!
فتتحامل على نفسها وتنتصب مع حدبتها للنظر من خلال بقـايـا بنـافـذتها، قد نسجت فوقهـا العناكب بديلا عن ستـائرها!
فترنو بجفنيـها المتقرحين إلى الأفـق البعيد حيث رأتـه آخر مرة راحـلا...
وأمسى هناك منذ عـاد ذات يـوم وجثم هنـاك!
شبح أخرس، غـائر خلف الـتـلال، وان بـدا ما خلفها لتهب دائما، الا أنه لا يأتي منها أبـدا.
وتمتمت بأمانيـها وبالدعاء!
بـأن يتأجج الأفق بالحريـق، ويزحف بلهبــه، ويلتـهِم كل الأشواك التي تعيق أو تسد الطريق، ويصهر المتـاريس ويقوض السدود ويسقط الصخور، ولكن!
انتظارها ما زال يطول!
ولا يظهر لها سوى فجر ومن خلفه الأفـق الجريـح الدامي! فـتـعود إلى حيث زاويتـها..
تلعـق المرار، وتتلمظ بشـظايـا اليـأس، تحرقـها.
ورأيتـها أخيرا! ولآخر مرة..
في زاويتها، لم تعد لها أقـدام تحملها، وقد جمـد ماء عينيها، وانحسرت بالجفاف موارد الـدم إلى يديها وفي ساقيها.. واكتست بشـرتها يبسا من الـعـوز والـظمـأ.
وأصبحت تلك الرؤى بـانتظـام، ولا أراهـا إلا تولول وتلطم خديهـا وهي تـُهـرِّف، وربمـا هي آخـر الكلمات التي تعيـها:
- لأكثر من نصف مئـة خريف؟ وأنا أنتظر؟!..
- أيها العاق! أيها الــ ...
وتنسى في ذهولها ماذا تريد أن تقول ولمن تريد القول، وتعود من جديد إلى غفوة ذهولها..
ثم أصبحت لا أرى إلا كوخها البائس الصغير، وأمام بابه شجرة زيتـون، تتوسط ما كان حديقتها وهي حوض لزهرة بنفسج! كانت تريدهما علامات لبـيتـها، وشـهودها على الحكايـة...
ولكن!
وذات ليلـة مظلمة، هبت ريح غريبة، هدمت، واجتثت، ودفنت كل المعـالم والبقايـا..
وزحفت حتى اختفت جميع الألوان، عدا ذلك اللـون المعتم القاتم لينطمس مع كل شيء في الظلمـة!
وإذا بي أفيق من نومي! وتــوارت كل بقايـا الرؤيــا، ومنذ ذلك حتى الآن! أكـاد لا أذكر شـيئا!
ولا أي شيء عن تفاصيل هذه الرؤيــا، وهي كابوس حلم.
فعلى ماذا إذا! أنسج الرواية؟
وكيف أصور نهاية الحكاية؟
فأطفال اليوم! .. والـغـد! لا تسـتهويهم الأسـاطير.
وعصرهم لم ولن يخفي عنهم أي سر صغير أو كبير!
وأدركت أخــيرا أني في مأزق خطــير!
ولكني اكتشفت بأني مثـل الكثـير، ومـثـلي كثــير وهناك مــثلي أيضـا ممن يـنـامــون ويحلمـون
وهم …واقـفــون.
******
[b]